إسلامية

‏هذه عرفة يا الله ! المكان: عرفة الزّمان: السّنة العاشرة للهجرة أمّا الحدث فحجّة الوداع نرجعُ بالزّمان قليلاً، ثلاثاً وعشرين سنة إلى الوراء رجلٌ وحيدٌ في غارٍ مظلمٍ في بطحاء مكة ينزلُ حاملاً النّور إلى العالم! اعتباراً من هذه اللحظة سيُعلّمُ هذا الأميّ المتعلمين والفلاسفة والمفكرين ليكونوا بشراً! اعتباراً من هذه اللحظة سيُعلّمُ هذا اليتيم رجال العالم ليكونوا آباءً صالحين! اعتباراً من هذه اللحظة سيُعلّمُ هذا الذي فقد أمه طفلاً نساء العالم كيف يكنّ أمهاتٍ صالحات! اعتباراً من هذه اللحظة سيُعلّمُ هذا الذي لم يُعرف بالفروسية قادة العالم خطط الحروب وأخلاق المحاربين! اعتباراً من هذه اللحظة سيُعلّمُ هذا الفقير الذي كان يرعى غنم أثرياء قريش أثرياءَ العالم قانون الزّكاة، وسيحثُّ على الصدقة، ويقسم الغنائم ، ويحثو المال حثواً! غير أنّ الطّريق إلى حجّة الوداع لم يكن مُعبّداً! لقد كانت ثلاثاً وعشرين سنةً من المشقّة أخبره ورقة بن نوفل منذ اللحظة الأولى أن قومه سيخرجوه! وصدق ورقة! ضاقت عليه قريته التي أحبّ، وتآمر لقتله قومه الذين جاء لإنقاذهم من النّار! خرج تحت جنح الظّلام إلى المدينة ليس معه إلا صاحبه وكان الله ثالثهما! بنى دولةً كما العباقرة، وحارب كما الأشداء، وعقد الاتفاقات كما القادة، وأقام الأحلاف كما الساسة وعاد إلى مكة ليدخلها من أبوابها الأربعة في وضح النّهار! أمّا اليوم فهو على جبل عرفة، معه مئة وأربعون ألفاً كلّهم ينتظرون أن يخطبَ ليسمعَوا، ويأمر ليفعلوا، وينهى لينتهوا، ثمّ قال الصوتُ الشّريف: اسمعوا منّي أُبيّن لكم فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا! كان يعرفُ أنّ الأجلَ قد اقترب، فقد جاء نصرُ الله والفتح! وقد أرادها خطبة جامعة فكانت! أيها النّاس إنّ دماءكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد! أكان يعرفُ أننا سنضربُ رقاب بعض، ونعتدي على أعراض بعض، ونأكل أموال بعض؟! ولكنه نادى فما سمعنا، وبلّغ فما أطعنا، ونصح فما اتّبعنا، وذكّر فما حفظنا! ألا وإنّ أقواماً سيحولُ الله بينهم وبين شفاعته، ويقول له: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك! ثمّ يُكمل: وإنّ ربا الجاهليّة موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، وأوّلُ ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبد المطلب! وإنّ دماء الجاهليّة موضوعة، وأوّل دم أضعه دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب! ما أعظَمه! أوّل ربا يُوضع ربا عمّه وأوّلُ دمٍ يوضع دم ابن عمه وهو القائل من قبل: لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها! وحاشا فاطمة! ولكنّه أراد أن يُسجّل في التاريخ أن الإسلام أوّل من قال: لا أحد فوقَ القانون! الربا حرام ولو كان ربا بني هاشم وثأر الجاهلية حرام ولو كان دم بني هاشم والسارق تُقطع يده ولو كانت ابنته أراد أن يُعلّمنا أنّ هذا الدين ليس فيه مجالٌ للمحاباة الحقّ حق ولو جاء به أضعف النّاس والباطل باطل ولو جاء به قريب الرّجل الأوّل في الدّولة! ثمّ أردفَ: أيها النّاس: إنّ لنسائكم عليكم حقاً، ولكم عليهنّ حقاً، فاستوصوا بالنّساء خيراً، فإنّهنّ عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئاً، وإنّكم إنّما أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النّساء! هكذا يجعلُ المرأةَ إحدى مسؤوليات الرجل لا إحدى ممتلكاته! فهو وإن أخذها بكلمة الله وميثاقه فليجعل منها أمّاً لا وعاء إنجاب ورفيقة عمر لا جارية وحبيبة قلب لا آلة جنس! ثمّ قال: أيّها النّاس: إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب! هذا هو الإسلام العظيم ، لا أحساب ولا أنساب! أبو لهب الهاشميّ في النّار، وبلال الحبشيّ في الجنّة! أبو جهل القرشيّ في النّار، وسلمان الفارسيّ في الجنّة! أُميّة بن خلف العربيّ في النّار، وصُهيب الروميّ في الجنّة! لو نفع إنسان نسبه لانتفع لأبو لهب! ولو نفع إنسان ملكه لانتفع النمرود! ولو نفع إنسان ماله لانتفع قارون! ولكنّ أكرمكم عند الله أتقاكم! هذه عرفة يا الله! فاتنا الوقوف فيها هذا العام، ولكن لم يفتنا الوقوف ببابك! جئناك بذنوبنا نسألك سؤال من نعلم أنّه لا يردُّ سائلا أن تعتق رقابنا من النّار جئناك بعيونٍ نظرت إلى حرام، وآذان سمعت لغيبة وأسنان لاكت لحوم النّاس، وألسن خاضت في أعراضها وبأرجلٍ مشت في غير رضاك، وأيدٍ امتدت إلى ما نهيت جئناك نخبرك أننا ما عصيناك استخفافاً بمراقبتك، ولا استهانةً بعذابك ولكن غرّنا عفوك فاجترأنا عليكَ! وطمّعتنا بمغفرتك فطمعنا فيك، ولا غنى لنا عنك إلا بك ها نحن على بابك ، عصاة مذنبون، وهذا يوم ظنّ إبليسُ من كثرة عفوك أن ستعفو عنه ، فلا تساوينا به، فإنّا على كلّ ما فينا نُحبّك! أدهم شرقاوي / إذا الصُّحفُ نُشرت

تم النسخ
احصل عليه من Google Play