عاد أبي يقول : عاد أبي من الحرب بعد غياب طويل عندما كنت صغيرا ؛ ومن شرّ الأقدار أنني أنا من فتحتُ له الباب في ذلك اليوم المشؤوم ! رجل ضخم البنية ذو لحية كثيفة ؛ وشعر قارب لمس أذنيه من الطول ؛ لم تكن هيئته توحي بأنه زائر عادي بالرغم من أنه كان يحمل في يديه باقة من أزهار ( الجاردينيا ) . أذكر أنه جثى مباشرة على ركبتيه بعد أن رآني ونزل على الأرض وكأن أقدامه لم تعد تطيق حمله أكثر من لحظة واحدة ؛ نظراته غريبة جدا ؛ كان من الجليّ أن عيناه مستعدتان للبكاء بمجرّد لمسه ؛ ولكن كل ذلك لم يكن ليعني لي شيئا أبدا ... اقترب مني كثيرا وحين همّ بوضع يديه على خدّي قال : - أحمد لقد كبرت سريعا يا بني !! ولكني ببراءة الأطفال قلتُ : - عفوا يا عم !! إذا كنت تريد أبي فهو ليس في المنزل !! هذا وقت عودته من العمل إنتظر قليلا سيأتيك حتما .... تغيّرت ملامحه فجأة وأبعد يداه عني ووقف كأن الأرض تعبت من جلوسه ؛ لم يقل شيئا ؛ لم يصرخ ولم يضرب بيديه الحائط ؛ بقي صامتا ينظر لي حتى أنّه أخافني جدّا وهو يمسح عن وجهه أثر الدموع ! أثار انتباهه صوت أمّي تنادي من على الباب : من هناك يا أحمد ! لم أنتبه لها أبدا فقد كان بصري شاخصا نحوه ولكنها سرعان ما أتت حين أطلت الرّد عليها ! وفور ظهورها ارتميت مباشرة في حضنها متمسكا بثيابها هربا من ذاك الغريب وملامحه المخيفة ! صَمتا طويلا قبل أن ينطقا شيئا ثم قال لها وكان من صوته يبدو أنه منكسرا ! - لماذا ؟! بعد ذلك دار بينهما حديث غامض تخلله بكاء أمّي ذكرا فيه الموت والرسائل و6 سنوات من الغياب ! وفي أثناء هذا وصل أبي المزيّف بينما كان عائدا من العمل وقال في غضب هو الآخر : من هذا الغريب الذي تحدّثين يا عزيزتي .... وما إن استدار إليه حتى عاد الصمت مرّة أخرى إلى ذلك المشهد . قبل أن يكسره نفس الشخص ويسأله مستغربا : أنت !! وفي ظلّ هذا التوتّر المشحون ؛ من هناك حضر أحدهم في هيئة ساعي البريد وفي يده رسالة أعطاها لأبي قائلا : عذرا فقد وصلتكَ هذه الرسالة يا سيدي من نفس العنوان منذ أيام ولأسباب خارجة عن سيطرتنا لم أستطع إيصالها في وقتها المناسب ! قبل أن يختطفها ذاك الغريب من يديه وراح يتفحّصها بذهول شديد .. لحظات قليلة بعد هذا نشب بينهما عراك كبير ؛ لم يتوقّفا ولم يأبها بسقوط أمّي مغشيا عليها ؛ إلا حين مضيت جريا نحوه ورحت أضربه صائحا في وجهه أترك أبي يا هذا ! هنا توقّف !! وهو ينظر لي ؛ عادت تلك الملامح المنكسرة لتخيفني مجددا ! وقف ونفض عن ثيابه الغبار وراح يفحص الكل بنظرة طويلة ثم غادر إلى حيث لا أدري ... أيّام بعد هذه الحادثة تدهورت صحّة أمي كثيرا بعد أن اشتدت الخلافات بينها وبين من كان يدّعي زورا أنه أبي ؛ زاد الوضع تأزّما حين أجبرته على الإنفصال عنها بعد تدخّل أقاربي في الموضوع ؛ غير أنه لم يكتفي بذلك القدر فقد أحرق المنزل بأكمله ودخل السجن عقِب دخول أمي للمستشفى إثر تلك الوعكة الصحّية التي أصابتها يوم الحادث ! بعدها كان من الطبيعي أن أمضي الوقت معها ؛ وما إن استفاقت حتى قرّرت أخيرا أن تخرج عن صمتها وتقصّ لي مالذي يحدث بالضبط ! قالت أنّ أبي قد تركنا مرغما حين كان عمري سنة واحدة ؛ ولكن السنين مرّت ولم يأتي خبر منه إلى أن سمعوا من إبن عمّه ذات حزن ؛ بأنه قد مات وفُقدت جثته في غربته تلك ! عام ونصف بعد الحادثة أقنعها أهلها بالزواج منه هو بالذات فقد كان قبل أن تتزوج بأبي يتردد في طلب يديها ولكنهم كانوا يرفضون تزويجه إياها لفارق السن الكبير بينهما ! ولكن عودة أبي بعد غياب 6 سنوات كشفت أنه كان يكذب على الكلّ وفوق هذا خبّأ عليها رسائل الحياة التي كانت تأتي من الموت هناك !!. - ولكنّه قد غاب مجددا مجددا يا أمي ! ( قلتُ بعد أن رفعتُ رأسي عن يديها ) لكنها لم تجبني !! في أثناء ذلك حاولت بصعوبة مساعدة نفسها على إسناد ظهرها على السرير ؛ وظهرت وقد شُدّ بصرها ناحية باب الغرفة وقالت : تبدو هذه رائحة أزهار ( الجاردينيا ) ! ولحظة حتى ظهر الأمان من خلف الباب أخيرا ليُسكت كل ذاك الكم من الخوف في صدري ؛ وحلّ السلم بعد عناء طويل ليطفئ نار الحرب في قلب أمّي ... هذه المرّة لم يكن لا ميتا ولا غريبا ولا مخيفا ولا باكيا ولا صامتا أبدا ! هذا أبي نعم وقد عاد إلى الحياة أخيرا ..